RSS

د. أمين عثمان: قراءة في عتبات النصّ من خلال مجموعة” مواويل عائد من ضفّة النّار” لـ: ميزوني بنّاني أنموذجا

15 فيفري

10402647_884623008218113_2952382857720130500_nphoto.php2

التمهيد:
من بين أهمّ المصطلحات الّتي تروج الآن في سوق التداول النّقدي، نجد مصطلح عتبات (Seuils) الّذي أفرد له “ج.جنيت” كتابا كاملا سمّاه بهذا الاسم، جاعلا منه خطابا موازيّا لخطابه الأصلي وهو النصّ، يحرّكه في ذلك فعل التأويل، وينشّطه فعل القراءة شارحا ومفسّرا شكل معناه. فالنقد المعاصر، صار اليوم يسعى إلى الاهتمام بما يسمّى “مداخل النص”، أو “عتبات الكتابة” بعد أن ظلّ إلى وقت قريب يولي اهتمامه بالقارئ على حساب النصّ ، و يرجع هذا الاهتمام إلى ما تشكّله هذه المداخل من أهمية في قراءة النصّ و الكشف عن مفاتنه و دلالته الجماليّة ، وهذه العتبات هي علامات لها وظائف عديدة ، فهي تخلق لدى المتلقي رغبات وانفعالات تدفعه إلى اقتحام النصّ برؤية مسبقة في غالب الأحيان، فالعتبات النصيّة علامات دلاليّة تشرع أبواب النصّ أمام المتلقّي، القارئ و تشحنه بالدفعة الزاخرة بروح الولوج إلى أعماقه، فغياب هذه العتبات أو النصّ الملحق – هل معناه أن القارئ سيكون عاجزا على اقتحام بنيته ؟ ، إنه سيجد نفسه أمام أبواب مغلقة، وعلية فتحها، من هنا تتجلى أهمية هذه العتبات لما تحمله من معان وشفرات لها علاقة مباشرة بالنص تنير دروبه أمام المتلقي، وهي تتميز باعتبارها عتبات لها سياقات فيه تاريخيّة و نصيّة ووظائف تأليفيّة تختزل جانبا مركزيّا من منطق الكتابة ولا نذيع سرّا ولا نسوق جهرا، إن نحن أشرنا إلى الأهميّة المخصوصة الّتي يكتسيها التّعالي النصّي في قراءة النصّ الأدبي. فهو عبارة عن مداخل للنصّ، تشرع أمام المتلقّي الطّريق لاقتحام أسوار هذا النصّ، ومن خلالها يبني أفق انتظاراته. وهذا التّعالي له وظائف عديدة ومختلفة و”سياقات توظيفيّة وتاريخيّة ونصيّة ووظائف تأليفيّة” ، وهو الخريطة الّتي يسير على هديها القارئ وهو يرتاد مفاصل النصّ، باحثا عن جماليّاته ومعانيه، وعلى هذا الأساس خطر ببالنا ونحن نقلّب النّظر والفكر في المجموعة القصصيّة” مواويل عائد من ضفّة النّار”- وقد جئناها من عاصمة الخضراء نسعى، نجوب أرجاءها، ونتفكّر في وسيع تضاريسها وبناء معماريّتها على توسّط حجمها الورقي وفضائها البصري، ننحدر مع وهادها ونمشي في منبسطاتها ونعتلي شموخ جبالها الحزيزة الكزيزة الّتي نقدرّ مسبقا أنّها لا تبلغها إلاّ النّسور- أن نقدّم قراءة في عتبات النصّ من خلال:” مجموعة ” مواويل عائد من ضفّة النّار” أنموذجا، متّخذين العتبات مظهرا من مظاهر نصيّة النصّ نضيئ بها بعض الجوانب المعتّمة، ونستقطر بها المعاني الغائرة في أصقاع النصّ. هذا الّذي لا يمكننا تجلية غوامضه وسبر مخفيّاته وتسميّته إلا بمناصّ، فنادرا ما يظهر النصّ عاريا من عتبات لفظيّة أو بصريّة مثل اسم المؤلّف، العنوان المركزي، العنوان الفرعي، الإهداء، التّصدير، صفحة الغلاف…إلخ. غير أن العتبات في إطار مصطلح (النصّ الموازي)؛ لا ينفي ذلك كونها نصوصاً موازية؛ تحُفُّ – كالروح- جسد النصّ حائمةً حوله، تمنحه حيواتٍ متجددةً. وإذا كان معجب العدواني قد شبهها” بعتبة البيت الّتي تربط الدّاخل بالخارج، وتُوطَاُ عند الدخول؛ المكان الذي لا غنًى عنه للداخل إلى المنزل، في حين لا يمكن لذلك الداخل أن يطَأَ كل جوانبه حتى يثبت دخوله فيه” ؛ فإنّنا يمكن أن نشبّهها بالمصباح المعلّقِ في الغرفة، موازياً – على نحو من الأنحاء- لكل جنباتها، بحيث لا تكون له قيمة في ذاته إلا إذا ملأ إشعاع ضوئه كل جنباتها مبدّداً فيها جوانب معتّمة. فمعاني النصّ ودلالاته، يتأسّسان من طريق المعايشة العميقة لهذه العتبات. ولعلّ التفات الناقد جيرار جيناتG . Genette)) إلى هذا المبحث في كتابه” عتبات” Seuil))، يقوم شاهدا على أهميّتها، ومالها من دور رياديّ في استقراء النصّ. فالدلالة حينئذ ليست معطى جاهزا في ذاته في ذاتها. إذ لا تكون دون تأويل، ولا تنشأ بمنأى عن الخطاب، ولا تتشكّل إلاّ أوان اشتغال العناصر والبنى التركيبيّة داخل النصّ.
-الغلاف واسم المؤلّف والعناوين الرئيسيّة والخطاب المقدّماتي
1-عتبة الغلاف:
يعدّ الغلاف بوّابة العبور التي تمنح القارئ فتنة اكتشاف عالم النّصّ القصصيّ وسبر أغواره، فالغلاف يفتن متلقّيه بالمعنى الّذي ينساق وراءه، هو اللّغويات الأولى باعتباره جمّاعا للعناصر المناصية المركزيّة الّتي تجذب انتباه القرّاء بصفة خاصة إلى مستوى الدّلالة والبناء والتّشكيل.. إذ العتبة الأولى تكون مع الغلاف، والصّورة مثلما جرت العّادة، يمكن أن نفهم من خلالها، الدلالة الحقيقيّة والمجازيّة في آن، فهي الشّكل البصري كما أنّها تعتبر الشّكل الذّهني المتخيّل، الّذي تثيره العبارات اللّغويّة. وهكذا، يعتبر الغلاف – بصورة طبيعية – العتبة الأولى التي تصافح بصر المتلقّي لذلك أصبح محل عناية واهتمام الأدباء الّذين صيّروه من حاجة تقنية معدّة لحفظ المادّة المطبوعة إلى فضاء من المهيمنات الخارجيّة والموجّهات الفنيّة الّتي تحفّز القارئ وتساعده على تلقيّ النّصوص. ولا يحسن بنا الإغضاء عن أنّنا في دراستنا للغلاف لن نقصر عملنا على الغلاف الأمامي، بل سنتناول أيضا الغلاف الخلفي يحدونا أمل وضّاء بإمكان الإلمام بمفتاحيّة المعنى والشكل من النصّ الموازي أو العتبات علّنا نتمكّن من أن نظفر بالمعاني المبثوثة طيّ المتن فهما وتفسيرا، تشقيقا واستقطارا.
أ‌-الصورة:
تمنح صورة الغلاف رؤية بصريّة، وهي أوّل ما يحقّق التّواصل مع القارئ قبل ولوجه إلى فضاء النصّ، ومن ثمّة كانت صورة الغلاف عتبة أولى يصطدم بها المتلقّي وتجعله قريبا من النصّ، ذلك أنّها تقوم بصيانة محتواه بصريّا من خلال الصّورة،” فأفق الانتظار منفتح للمشاركة وإتمام المعنى” . لذلك كثيرا ما يلجأ المبدع إلى الاستعانة بالصّور، أو الرّسوم، أو الأشكال بشتّى أنواعها والخطوط، ليزيّن بها الغلاف الخارجي لمجموعته القصصيّة، ففي البداية كانت أغلفة الكتب تصميم بالرّسوم البسيطة والألوان البدائيّة، وبعد أن اخترع العالم الألماني “فريدريك سكوت الكاميرا” عام 1850م استخدمت الصّور الضوئيّة في تصميم الكثير من الكتب. وقد يستعين بعض المصمّمين بلوحات سرياليّة أو تعبيريّة للكتب الأدبيّة . وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ هذه الصّور تعدّ بمثابة الطّعم الّذي يُنصب للقارئ، فأوّل ما يلفت انتباه القارئ لرواية معيّنة هو غلافها، لذلك كانت عتبة الغلاف عتبة استغوائيّة للقارئ يجعله يقبل على رّواية دون أخرى قبل أن يعرف محتواها، “فصورة الغلاف في أشكالها الهندسيّة وتقاطعاتها الكاليغرافيّة نصّ بصريّ يختزن هموم الكتابة، ومعاناة الإبداع في إطار الديناميكيّة القائمة على مرجعيّة الكتابة ووعي الكاتب” . ولذلك يعتبر(Christian Metz) الرّسالة البصريّة مثل الكلمات، وكلّ الأشياء الأخرى، لا يمكن أن تنفلت من تورّطها في لعبة المعنى ، فالصورة علامة أيقونيّة وخطاب مشكل كمتتالية غير قابلة للتّقطيع، لأنّها المتتالية الّتي تسعى إلى تحريك الدواخل والانفعالات للرائي(القارئ)، وهذا ما يبرز جمالية المرئي، الّذي تتضافر عناصر من أجل تأكيد المكتوب. والصّورة تحيل على موضوعات قابلة لأن تتعرّف، فهي بمثابة لغة ثانيّة، دالّة بشكل كثيف، لكن بوصفها ماهية بصريّة تستدعي اقترانها برسالة لسانيّة تعضد دلالتها، وإن كانت الصورة لدى كثير من الدارسين من شأنها أن تضيف شيئا إلى النصّ، بل قد تكون اختزالا للنصّ في دلالات كثيفة، إذن سأحاول مقاربة صورة الغلاف المؤثّثة بثلاث علامات هي، الصورة الفوتوغرافيّة، اسم المؤلّف والعنوان، وجميعها ترتبط مع المتن الحكائي بعلاقات تحقّق نوعا من الاستباق. لأنها تحلم بالتّخييل قبل الدخول في الفضاء التّخييلي للمجموعة القصصيّة، وذلك لانفتاحها على التّأويل ولارتباطها بدائرة الممكن، فهي أيقونة وتخيّل ووهم وطيف ونظرة ورؤية ووعي وتصوير قراءة وتأويل لواقع أساسه اعتبار ما سيكون مفصّلا ومتجليّا وكُمّلا في المتن الرّوائي، وهي أيضا أمشاج من المشاعر والأفكار والأمزجة والانطباعات تنتظم وفقا لمتواليات الوجدان وإيديولوجيا والنّسق الفكري والثّقافي الّذي ينافح عنه المؤلّف أو النّاشر أو هما معا، وتلك هي خلاصة الصّورة بوصفها محض تشكيل تمثيليّ وتخييليّ يعكس عبره القصّاص المبدع حمولاته الثّقافيّة والإيديولوجيّة الّتي يعتقد صوابها ويأبى لها إلاّ أن تنبثّ في أوساع اللاّشعور الجماعي لجماعة التدّاول الثّقافي المرصود لهم الكتابة القصصيّة الإبداعيّة.
ولا يحسن بنا الإغفال عن التّأشيرة التّجريبيّة المعلنة من خلال الصّورة بوصفها معطى عتباتيّا مهمّا وأساسيّا بما هي مفتاحيّة مركزيّة في الولوج إلى عالم المتن وفكّ إلغازاته وتفكيك معميّاته وسبر مخفيّاته ومضمراته، وبما هي أيضا بنية رمزيّة أو شيفرا علاماتيّة تحتاج لمن يفكّ الارتباط بين مكوّناتها البنيويّة، وهو ما يفضي إلى الكشف عن مقصديّة المؤلّف أو النّاشر من وراء اختيار هذه الصّورة أو تلك من بين اختيارات متعدّدة ومتنوّعة.
*- صورة الغلاف الأمامي لـ” مواويل عائد من ضفّة النّار”:
تمثّل صورة الغلاف عتبة مركزيّة استراتيجيّة، لا مندوحة من الوقوف عليها، واللّواذ بها، إن نحن رمنا لأنفسنا فهم النصّ وتأويله، فإذا جوّدنا النّظر في صورة الغلاف الأمامي لهذه المجموعة ” نلفيها تحلم بالتّخييل قبل الدّخول في الفضاء التّخييلي للمتن، وذلك لانفتاحها على التّأويل وارتباطها بدائرة الممكن، فهي أيقونة وتخيّل، ووهم وطيف، ونظرة ووعي، وتصوير ورأي، وتأويل لواقع أساسه اعتبار ما سيكون مفصّلا ومتجليّا وكُمّلا في المتن القصصّي. فصورة الغلاف المتحيَّزة داخل إطار مستطيلي الشّكل إنعاما في الدّقة والكثافة والتّركيز الّتي هي من العناصر الفنيّة الأساسيّة المتعيّن توفّرها لاستقامة الحبكة القصصيّة واستواء عودها، إلماحا إلى ما يمكن لها أن تتناصّ فيه مع عدسة الكاميرا أو العين السّينمائيّة الماثلة في بعض القصص، لعلّ من أبرزها حضورا وأبينها ما ألفيناه في قصّة” عرس الشهيد” حيث قامت هذه العين بتغطية المكان طوبوغرافيّا بالوقوف الدّقيق على حيّزاته وأبعاده المختلفة والمتنوّعة وتفاصيله الدّاخليّة والخارجيّة(بيوت الشهداء، فلسطين، رفح، مصر) ثمّ عُنيت بالتّركيز على الصفات الجسديّة والنّفسية الحركيّة (نسبة إلى علم النّفس الحركي) لأمّهات الشّهداء (حركاتهنّ، تعبيرات الأيدي والوجه، الكلام معلناته ومضمراته)يقابلها صولة سلوكيّة واعتداد بالذات الوطنيّة وإصرار على المضيّ قدما على الخطّ النضالي نفسه الّذي اختطّ سبيله الملكيّ من نار ونور هؤلاء الشهداء الفلسطينيّون ومن سبقهم ومن سيأتي بعدهم وروُّوه بدمائهم الزكيّة علّه ينبثق جيل آت يرفل في حلل الجمال والحريّة. ثمّ لماذا اختارت هذه العين السيّنمائيّة بيت أمّ محمّد الحنفي لتجلية غوامضه وكشف مكوّناته؟ ولماذا اختارت أن تسلّط الأضواء على شخصيّة أمّ محمد الحنفي مادّة وروحا، حسّا ومعنى، ومن هنا يتعالق الجدولان: جدول الصفات الجسديّة (prosographie) وجدول الصفات الخلقيّة (L’étopée)، ولم يكتف المصوّر بذلك، بل جال يتفرّس في وجه هذه المرأة بقريحة تفتّقت كوامنها الفنيّة، ففاضت على جنباتها وراحت ترصد انعكاس وجهها على وجه المرأة العربيّة وصورتها الأخرى(سهام ذهني) بانفعالات صامتة منهوكة أحيانا، ومكبوتة شقيّة أحيانا أخرى. إنّها صور المفارَقة الصّادمة تطوّح بذهن المصوّر، فكأنّنا به يحدّث نفسه بما يشبه حديث الرّوح في الأرواح يسري:” شتّان بين وبين، بين أمّ محمّد الحنفي المرأة المناضلة، المسكونة بروح التقديس للأرض والعرض، وبين المرأة العربيّة الأخرى المخدوعة ببريق فنّ الموضة، المأسورة بقشور الحياة الزّائفة وبهرجها الزّائل. وكذا الأمر في قصّة” المشي بسيقان ميّتة” حيث تمّ التّركيز من بداية القصّ إلى نهايته على التأطير التّمثيلي لحياة الشخصيّة الرئيسيّة، إن على مستوى الدّيكور الكامل المؤثّث لحياتها اليوميّة وإن على مستوى حياتها الباطنيّة النفسيّة الحميمة ذات الصّلة بالأبعاد الحضاريّة الكبرى المضمرة في كوامن ذهن المؤلّف يتغيّأ إلى تجلية معمياتها وكشف أبعادها ومداها في تفاصيل العمل، فشجرة الخرّوب ترمز للأب حيث يصدح الكاتب بالقول:” هذه شجرة الخرّوب تدعوك إلى تأمّل تمكّنها من الأرض فتُشيح بوجهك عنها باحثا في الفضاء عن أوشاج تنسج بها طريق المستقبل” (ص111)، أمّا البيت فيرمز إلى البعد الحضاري والجغراسياسي يقول الكاتب: لكنّ عينيك أبتا إلاّ أن تقعا على بيتكم المتربّع هناك على هضبة بشموخ وتحدّ (…) هناك في الرّكن المقابل حصيرة على زربيّة قد سرقت منها الأيّام لونها الحقيقي (…) ولا يُخفي المصباح العتيق نفسه إذ سريعا ما يجلب انتباهك وقد اسودّ من جرّائه وجه الدّار.(ص111).
وهكذا، فإنّ هذه الصورة الّتي يحتويها شكل المستطيل تختزن معماريّة متناسلة، بل نمنمة متدامجة، مختلفة ومؤتلفة من الألوان والنّقوش والأشكال وبعض الخطوط، وهي تتناصّ مع نص المتن، باعتبار أنّ هذه المجموعة القصصيّة تنهل من معين التّراث وهي لا تشيح بوجهها عن أصداء الحداثة. فالبانوراميّة اللّونيّة صدى وترجيعات صدى لتعدّد وجوه الحقيقة، وتنوّع منظوراتها وأبعادها وفرارها من منابت الأحادية وانحسار الأبعاد، فحقيقة الكينونة الإنسانيّة والذات الفرديّة تتأبّى عن أن تنحسر في بعد أحاديّ الجانب، فهي جوهر ثريّ بالدّلالة الحرباويّة، مكتنزة بالمعاني الّتي تفيض عن الحصر والتّحديد، هي في وجيز عبارة وبليغ إشارة بألف رأس وبألف ذراع. إن ّالرقعة الحمراء المتّسعة بتدرّجاتها اللّونيّة، على تعّدد منابتها ومواقعها المكانيّة، المهيمنة على الفضاء البصري للصّورة، إنّما ترمز إلى محاور الشرّ ومصادر الفتن والموت المترَع بالاحتراق والاشتعال، وهي متعدّدة المواضع موزّعة على امتداد نظر الرّائي في الشّبكة البصرّية للصّورة، فهي غير متمركزة في مكان واحد، لذلك فإنّ رائحتها تعمر الفضاء وتزكم الأنوف حيثما كانت حياة وكان إنسان. ولعلّ في ذلك أروع دليل على أنّ ظاهرة الشرّ، لا ينبغي، على وجه الحسم والحتم، أن يتسلّل إلى اعتقادنا بصيص أمل خادع لإمكان مكافحتها أو استئصالها من جذورها بشكل فرديّ، فأمر التّخفيف من سطوته والتّلطيف من ملاحقته لبني آدم، همّ جماعيّ أو لا يكون، يستحقّ من الأمم بسط الأيادي لبعضها البعض، ورفع شعار التّعاون والائتلاف من أجل الانتصار للإنسان الكائن المكرّم الأوحد ولسعادة الإنسان. وبناء عليه، يمثُل الحلم الكابوسيّ المتلفّع بمشاهد الهاوية والحطمة والنّار وجهنّم في صورها الدّنيويّة(ونذكر هنا قصّة” عرس الشّهيد” وقد وثّقها الكاتب في الهامش وصرّح بأنّها مستلهمَة من تحقيق صحفيّ أجرته الكاتبة والصّحفيّة المصريّة” سهام ذهني” حول” شهداء تفجير أتوبيس مفاعل ديمونة الإسرائيلي في فلسطين المحتلّة يوم 07/ 03/1988)، إنّه الحلم الكابوس الّذي ينقض بتوسّطه الكاتبُ الفكرة الأبيقوريّة القائلة بأنّ” الموت يعني غياب الإحساس”، فهو حلم يؤسّس فكرة بديلة قوامها تمثّل واقعة الموت، والنّظر إليها بوصفها واقعة قابلة للمعايشة والوعي بها من جهة (فلننظر، مثلا، إلى زغردة أمّهات الشهداء في سياق جنائزيّ عزائيّ بوصف الموت، هنا، بطولة وشرف لا يُطاوله شرف، وهو من ناحية ثانية تيمة عبور إلى حياة الخالدين المتنعّمين أبدا في عالم الما بعد أو عالم الجنّة والنّعيم المقيم)، وباعتبارها واقعة حتميّة ونهائيّة أفرزتها السّيرورة الوجوديّة للإنسان من جهة ثانية، لأنّ الموت بتعبير هايدجر:” هو آخر الممكنات جميعا، هو الإمكان الّذي يجعل بقيّة الممكنات كلّها(أيّا كان نوعها) غير ممكنة”
إنّ منتهى الإمكان الوجودي يولّد لدى الإنسان الخوف من الموت ومتعلّقاته، فتنبثق الرّغبة في الاتّصال بالحياة خارج أفكار العدميّين والّدهريّين، فينطمس كلّ عنصر مثير يحيل على الموت بوصفة نهاية، لذلك كانت عودة المواويل من ضفّة النّار إيذانا بمعاني الرّجعة وعودة الحياة الخالدة، فمثلما قيل في المثل” المرء في دنياه صورة” ولكنّ وجوده العابر لا ينفي إمكان تحنيطه في الذّاكرة، فالشهداء أصبحوا مذكورين بالغياب أكثر ممّا كان ذكرهم فاعلا بالحضور، ولا ينفي رسوخ أثره عبر الموّال الّذي يصّاعد في السّماء يحزّ عروق الكون وخلف الكون إلى اللاكون، إنّ الشّهداء، في الواقع، وجوه مرّت و لكنّها عتبات استقرّت في أعماق الوجدان وفي سويداء الضمير الجمعي للمجتمعات الإسلاميّة. إنّ تعدّد الألوان هي دليل تعدّد المواويل العائدة من ضفّة النّار، وتعدّد مسالك العودة ومعابرها ،وتعدّد مناويل المواويل بتعدّد القراءة اللّونيّة وفكّ طُلسم الارتباط محكم الرّتاج بينها وبين ما يرشح به المتن السّردي من دلائل الالتقاء ومواطن التقاطع والتّنافذ. فالموّال المتّشح بالزرقة علامة خير وقرينة فارقة على تبدّل في الأحوال واستحالة من القتامة والسوداويّة إلى التّفاؤل والأمل الوضّاء، لأنّ اللّون الأزرق، هو في مصدره الطبيعي “لون السماء والماء، إنه منعش شفاف يوحي بالخفة، حالم، قادر على إبداع أجواء خيالية. وهو أيضًا في المجال العاطفي يوحى بالسلام، وقد دلت التّجارب على أنّ هذا اللّون أكثر الألوان تهدئة للنفس” ( ). بالإضافة إلى حضور الموّال ذي اللون الأخضر الذي يرمز إلى استمراريّة الحياة، بكلّ ما فيها من مباهج تبعث على الفرح والتّجدّد. وينتصب في أعلى اللوحة ذات اليّمين وذات الشّمال مساحات ملوّنة بالأصفر بتدرّجاته ليذكّرنا برائحة الموت وهو الطريق المحتوم، لذلك يكشف الغلاف عن جدلية الحياة والموت. وفي الواقع، فإنّ هذه الجدليّة تتناصّ مع دلالات المتن. لذلك، فإنّ الكتابة في ” مواويل عائد من ضفّة النّار” كتابة لولبيّة دائريّة تعي ذاتها، وتدور على ذاتها، فإذا المعاني تتوالد كلّها من انعطاف النصّ على النصّ والكتابة على الكتابة، وإذا الأثر هو في ذاته الأثر والخلق، ولذلك تكون البداية والنّهاية لا بالمفهوم الخطّي للكلمة، وإنّما هي كتابة رمزيّة تتجاوز الخاصّ والجزئي والمحليّ لتتعانق وتتعالق مع العامّ والكليّ والإنساني” يا أمّ رجب…الظلمة، والضباب، والغبار، والغيم، والغشاوة، والمسالك، والدّروب الوعرة، وكلّ ما شابه ذلك في الأحلام، دلالة على ظلال الحالم في اليقظة” (مواويل عائد من ضفّة النّار، ص. 146.)
*-صورة الغلاف الخلفي للمجموعة:
جاء الغلاف الخارجي الأخير عتبة مهمّة للدخول إلى المجموعة القصصيّة، ومن هنا كان موجّهًا أساسيًّا لاقتحام عتبة النصّ، يدخل في تشكيله اللّون الأبيض، الّذي يحيل على الصّمت ونهاية المطاف، والصّمت تأمّل، بل قد يكون في مواضع كثيرة من حياتنا وفي النصّ أبلغ من الكلام، فهو الفراغ الّذي سيملؤه النّاقد، بل هو ضرب من إعلان ضمنّي عن كتابة مفتوحة لم تكتمل بعد، وتظلّ قابلة للنّسخ والتّحويل والإضافة، إنّها منطقة القارئ يعيد إنتاج النصّ الأدبيّ على نحو يُنزع فيه إلى رؤية أكثر شمولا، و يُراد منه بلوغ أقاصي مراقي الكمال الممكن في نشدان المعنى المتوثّب المنفلت والمتمرّد. فالكثير من القرّاء يحرصون على قراءة ما ورد في الغلاف الأخير بوصفه يُلقى الضوء على أهمّ ما جاء في المجموعة القصصيّة، ومن هنا حرص الكتّاب على اقتطاع أقوى نصوصهم أو نصوص النقّاد تأثيرًا ووضعها ديباجة للغلاف، وهذا ما فعله الكاتب ميزوني البنّاني حيث نجد في أعلى الصّفحة عتبة المؤلّف، وهو ما يُشعرنا بأنّنا في حضرة القراءة لكاتب له شخصيّته الأدبيّة المميّزة، فهو يتفرّد بقلم خاصّ، جرئ، ويتقحّم عتبة التّجريب كتابة ونقدا،. لذلك فإنّ اعتلاء اسم المؤلّف، في أعلى الصفحة الأولى، تأشير على تمثيليّة هذا الاسم لرأسمال رمزيّ له وزنه وثقله في سوق التّداول الإبداعي والقرائي، ولعلّ إعادة ذكره على صفحة الغلاف الخلفيّ يعكس رغبة جموحا من لدن مؤلّف النصّ في إعادة إنتاج مبدع العمل الأدبي ضمن نسق جماليّة التّلقّي، فهو أوّل ما يطالعه نظر القارئ وآخر ما يودّع به النصّ المقروء. حتّى يرسب في ذهن القارئ أنّه لا يتناول مجموعة قصصيّة لمبدع عاديّ، وعليه، ينبغي أن يكون قارئا فحلا من جنس المبدع الّذي يقرأ له، ومن جنس النّقاد الّذين أورد لهم جزء مقتطعا من مقالاتهم حول المجموعة ، وهما تباعا عمر السّعيدي (كاتب وناقد) و.د. الأزهر النفطي (باحث وناقد).
*عتبة اسم المؤلّف ودلالاتها:
: يتصدر اسم الكاتب(ميزوني البنّاني)، أعلى الصّفحة فما قصد المؤلّف أو النّاشر من ذلك؟ إن مكان وجوده له دلالة على أنّه يحظى بمكانة عند قرّائـه ومتابعيه، وهو ما يحقق وظائف عدّة من أهمّها: التّسمية والملكيّة ووظيفة الإشهار . ولعلّ ما يدفع الشّكّ باليقين في هذه المسألة عنده هو تكراره اسمه على الورقة الثّانية بعد صفحة الغلاف. مثلما نلفيه ماثلا على ظهر الغلاف الخلفي للمجموعة القصصيّة لا بتسميته، بل بترجمة حياته مختزلة، وهي تتضمّن الشّهادة العلميّة المتحصّل عليها ومهنته وأهمّ أعماله المشهورة. ولعلّ ما تجب ملاحظته، أنّ اسم المؤلّف يعدّ من العناصر المناصيّة المهمّة، فلا يمكننا تجاهله أو مجاوزته، ” لأنّه العلامة الفارقة بين كاتب وآخر، فيه تثبت هويّة الكتاب لصاحبه، ويحقّق ملكيّته الأدبيّة والفكريّة على عمله، دون النّظر إلى الاسم إن كان حقيقيّا أو مستعارا” . ومن هنا أضحى اسم المؤلّف من العتبات المهمّة المشكّلة للغلاف الخارجي، فوجوده فوق العنوان (مواويل عائد من ضفّة النّار) بلونه الأسود مخترقا بياض الغلاف، إنّما يحمل في طيّاته تناصّا مع العنوان من ناحية ومع المتن من ناحيّة أخرى. فأمّا التّناص مع العنوان، فتجلو ملامحه من خلال اعتبار إمكانيّة أن يكون المؤلّف طرفا مشاركا أو شاهدا في هذه التّجربة الدّمويّة المسكونة بألسنة اللّهب المترعة فوق بحر من الدّماء وضفّة مشتعلة من النّار ، المشار إليها باللّون الأحمر، الّذي اصطبغ به العنوان، والّتي قاد حركتها المؤلّف ليثأر من ماض ما كان مسؤولا، البتّة، عن حياكة خيوط ملهاته ونسج تفصيلاتها وحلقاتها، إنّه الماضي لا كلّ الماضي بل جزء منه، لعلّه الجزء الممثّل للتّخلّف والمكرّس لموت الاجتهاد والفعل والموطّد لدعائم الفكر الظّلامي وثقافة العنف، ولعلّ ذلك كان في عصور التّدهور والانحطاط الّتي هيمنت فيها النّزعة السّلطويّة الأبويّة وتمّت في ظلّها مصادرة حقّ الأبناء في اختيار مناهج الحياة المناسبة لزمانهم ولآفاق عصرهم، وهو ما حال بينهم وبين تحقيق الحاجة إلى تقرير المصير، وهم الأعلم به،. وأمّا التّناص مع متن النصّ، فتتبرّج حقيقته إذ نعي أنّ الكاتب، إنّما يكتب مجموعته القصصيّة بخطّ الفنّان والأديب المبدع الممتع فيما يبدع، وليس بخطّ كاتب السّيرة المنقاد إلى التّدوين تحت ضغوط النّفس المكلومة ،ودواعي الحاجة إلى إفراغ الشّحنة والرّغبة في التّماثل للبرء. ذلك أنّ مصدر الطّرافة ومرفأ الجدّة في مجموعته كامن في كينونتها الفسيفسائيّة التّشكّل والبانوراميّة البناء المعماري، تأتلف في معاطفها وبين حناياها السّرديّة السيّرة الذاتية والسّيرة وأشكال أدب الذات الأخرى مثل اليوميّات والمراسلات الخاصّة والتّخييلي مثل الشعر والخطابة والنّصوص الأدبيّة وغير الأدبيّة مثل التّصوير الفوتوغرافي والمسرح والسينما، تمتصّ خصائصها الفارقة بما أودعدها كاتبها فيها من قدرة كامنة على ذلك، من دون أن تلغي هويّتها الأجناسيّة. ولكن لا يحسن بنا الإغضاء عن كون أقاصيص المجموعة نهضت على كثير ممّا تنهض به السيّرة الذّاتيّة من سرد لقصّة الذّات في الوجود، وتأمّل فيها، وتقليبها على وجوه مختلفة ومتنوّعة تتردّد بين عين الرّضا وعين السّخط، وبين الإجلال والإزدراء. وقد تجاوز مثول السّيرة الذّاتيّة في منابت النّصوص مستوى التّقنيّات السّرديّة إلى مستوى الأفكار والأحداث والمضامين. فتطالعنا من الأحداث ما تشفّ فيه ذات الرّاوي/ الأنا، وتأخذ في التّعلّق والوله والتّولّه بالواقع المرجعي يصل حدّ التّشاكل والتّماهي مع ذات المؤلّف، وإذا بالواقع ينقلب نوعا من السّرد التّسجيلي لوقائع عاشها ميزوني البنّاني ذاته. فالأنا/ الرّاوي في أقصوصتيْ” توصية عزيزة جدّا جدّا” و” الزبون الجديد” معلّم مثاليّ امتهن التّدريس وأعطاه شبابه ومشاعره، لا يكاد يصاحب من البشر غير التّلاميذ الصّغار، وهو إلى ذلك كاتب أصدر كتابا ولم يجد معينا على ترويجه غير شخص واحد من أبناء بلدته، لم يعطه ثمن ما باع له من النّسخ. ونراه يتوجّه إلى معرض الكتاب بالعاصمة ويقتني مجموعة من الرّوايات والدّراسات في موضوع الحرب والأدب يذكرها لنا واحدة واحدة بإثبات العنوان والمؤلّف، فتقول له زوجته ساخرة مهدّدة: ” حسنا، ستقوم بيني وبينك حرب ضروس بسبب هذه الكتب”(ص 97). ولعلّ من هذه المعطيّات ما يمثل شفيفا غاية في الشفافية بحيث يصله بحياة المؤلّف نفسه خيط سرّي رفيع لكنّه بيّن لا يحتاج إلى برهان. أمّا ما يستعصي علينا فكّ ارتباطاته ومعرفة مشاربه، فقد أرشدتنا إلى ما أشكل منه وألغز ما قدّمه البنّاني من حوارات صحفية وشهادات أدبيّة، إذ نلفيه في إحدى شهاداته يذكر الكتب وظروف اقتنائه إيّاها، وهو لا يضيف شيئا هنا إلاّ تغيير شخصيّة الزّوجة، جاعلا منها في الحوار “أحد معارفي”. وفي إحدى حواراته الأخرى يعود إلى ظروف كتابة “عرس الشّهيد” كاشفا عن المصادر الّتي متح منها هذه الأقصوصة وطبيعة العلاقة الّتي جمعته بــــ” سهام ذهني” في الواقع. وإنّ في تواتر المؤشّرات السّيراذاتيّة في المجموعة لقرينة على أنّ كتابتها لم تكن عملا إنشائيّا سهلا وتبسيطيّ، ولكن إنتاجها وصفة أو خلاصة من ذوب الذّاتي المرجعي والتّخييلي القصصي. ويعاضد ما ذهبنا إليه ارتفاع اسمه في الغلاف الخلفي على مؤلّفَاته، فهو مصدر هذه النّصوص ومرسل إشاراته الرّوائيّة، ومن هنا لا يمكن للقارئ تجاهله.
*- التّجنيس:
يعتبر التّجنيس وحدة من الوحدات الجرافيكيّة، أو مسلكا من بين المسالك الأولى في عملية الولوج في نصّ ما، فهو يساعد القارئ على استحضار أفق انتظاره، مثلما يهيّئه لتقبّل أفق النصّ، وإن كان هذا التّجنيس يفيد عمليّة التّلقي بتحديده إستراتيجيّات آليات التّلقي وربط هذا النصّ المجنّس بالنّصوص الأخرى الّتي من نوعه في ذاكرتنا النصيّة، لأنّنا نتلقّى النصّ من خلال هذا التّجنيس، ونعقد معه عقد قراءة، مثلما بيّن ذلك “جيرار جنيت” وإنّ تلقّي أيّ جنس أدبي-قصصيّا كان أو غير قصصي- يتألّف من اتّفاق معقود بين المؤلّف والقارئ، الّذي يرتبط بنوعيّة هذا الجنس على وجه التّحديد.
إنّ حضور عبارة “مجموعة قصصيّة 2013 “على لوحة الغلاف الأمامي بخطّ دقيق أسفل الصّورة من ناحية اليسار، دليل على أنّ حضورها الّذي أتى يمشي على استحياء كاشف عن طبيعة ملتبسة ومركّبة لهذه الكتابة، فهي من نوع الكتابة الحرباويّة، التّفجيريّة لكلّ ما استقرّ وثبت من سنن ونواميس. ولا يفوتنا أن نشير إلى أنّ عتبة التّجنيس على الغلاف الأمامي تتناصّ مع المتن في الّتعبير عن كتابة قيصريّة الولادة، متعسّرة التّصنيف، مستعصيّة عن الفهم والهضم من منطلق الاستناد إلى الحدّ التّبسيطي والتّسطيحي لجنس القصّة التّقليديّة. فهذه مجموعة قصصيّة القصص فيها لا ككلّ القصص، ولعلّ ما يشوّش عمليّة القراءة ويعسّر الفهم وتتبّع الحكاية، هو أنّ الأحداث تسير في اتجاهين متعاكسين. الأول تصاعدي يتطلّع إلى المستقبل، والثّاني استرجاعي يرتدّ إلى الماضي. وتعبا لذلك لم يكن السّرد ارتدادا إلى الماضي كما هو الأمر في السّيرة الذاتيّة التّقليديّة وإنّما هو سرد راهن أيضا. ولما تقدّم يُعلم أنّ نصوص هذه المجموعة” المشي بسيقان ميّتة” “توصية عزيزة جدّا” و” مسعود الشقيّ” و”عرس الشّهيد” و” الزّبون الجديد” و” مع أخلص معاني الحبّ” و” الأيادي النّظيفة” و”اعترافات رجل سافل” و” آخر صكّ في الدّفتر” و” مواويل عائد من ضفّة النّار” إلى جنس القصّة القصيرة تنتمي، وفيها تتجذّر. ولعلّ العتبة النّصيّة القائمة أسفل عنوان المجموعة المذكورة آنفا، قائمة مقام اللافتة الأجناسيّة تحدّد جنس الكتابة وتشرعن (أو تسوّغ) الأساس القرائي الواجب اعتمادُه انطلاقا ممّا انعقد بين المؤلّف والقارئ من عقد انتمائيّ بمقتضى إبرام عبارة” مجموعة قصصيّة. ويعبّر عن هذا الانتماء أصدق تعبير استقلال كلّ قصّة من قصص المجموعة بنفسها وانعدام التّعالق السّببي السّردي بينها.
والطّريف في هذه المجموعة، هو انشدادها القوّي من ناحيّة أولى لبيت الطّاعة الأجناسي المقنّن لجنس القصّة القصيرة، وذلك من خلال وفائها لأبرز القوانين العامّة الّتي تميّز هذا الجنس. ونعني بذلك مركزيّة الفضاء المكاني، وضيق المدى الزّمني، ووحدة المكان، ووحدة الأثر. والمجموعة من ناحية أخرى ترتدّ إلى مرتكزات التيّار التّجريبي في القصّة، وهو رفضه للقواعد القارّة والتّنميط الأدبيّ. وهذا المنطلق يحتوي بعدا تفجيريّا للأشكال القصصيّة المعهودة، الموروث منها والوارد علينا من الآداب الأجنبيّة.” فالقواعد مقاعد مريحة” كما يقول صاحب الأدب التّجريبيّ باستهزاء . وكلّ محاولة لحصر الكتابة القصصيّة في نماذج تقليديّة ّخنق لحريّة الإبداع وتضييق لآفاق التّجديد، وحكم على الأدب بالتّحجّر والتّكلّس والاختناق. وإنّ في اجترار القوالب نفسها لتجميد للفنّ يذكّر بما حدث للمقامة في التّراث العربيّ. فقد ظهرت أوّل ما ظهرت في محاولات بديع الزّمان الهمذاني ابتداعا يكاد يكون مطلقا، ثمّ سرعان ما صارت نموذجا يُحتذى وقالبا أُفرغت فيه العديد من العلوم العقليُّة والنقليّة والمواعظ الجافّة والتّعاليم المتحجّرة، فقُضي على طرافة الجنس الأدبيّ، ولم يبق من الفنّ غير التّصنّع اللّفظي والزخرف البلاغيّ العقيم. إنّ نصوص هذه المجموعة لا تعدو أن تكون نماذج أو ترسيمات ممثّلة فعلا لأدب القصّة القصيرة في اقتناص راويها لحظات عابرة من الحياة هي كالبارقة تضئ وتمضي سراعا، لكنّ السّرد القصصي ينجح في اقتناص اللّحظة الشّاردة ليرد بها إلى خضّم حياة إنسانيّة زاخرة تعجّ حركة وحياة وتتشذّر تنوّعا واتّساعا، نستطيع عبر لعبة المرايا المتعاكسة أن نزجّ بأنفسنا، بأعماقنا، بفكرنا وثقافتنا وعقيدتنا إلى عوالم الشّخصيّات القصصيّة، فنتقحّم وعيها ولا وعيها، ونُفتن بمواطن الجمال فيها وتزكم أنوفنا بروائح خطاياها، نقاسمها أفراحها حينا وأحزانها أحيانا، ثمّ نُفاجأ بشكل يكسر، حتما، أفق التوقّعات بانقطاع خيط السّرد في لحظة التّنوير، انقطاعا انفجاريّا لا يبقي ولا يذر، فنشعر بالحاجة إلى أن نشرب من النّغبة تلو النّغبة علّنا نحقّق الرّواء، رواء الكيّان الإنساني الّذي لا يشبعه من جوع ولا يرويه من عطش إلا إذا شغّل المخيّلة وأخذ في تخيّل وتصوّر البدائل الممكنة أو المجنّحة لكتابة خيّرت اللّواذ بالتستّر والكتمان.
تلك أبين الخصائص الفنيّة الماثلة في قصص هذه المجموعة والّتي تجعلها بالقصّة القصيرة أوثق صلة ونسبا وأعلق سببا.
عتبة العنوان الرئيس :
لم تحظَ عتبة من العتبات بمثل ما حظيت به عتبة العنوان، ذلك أنها أولى عتباته الّتي تمثِّل مداخله، التي يقع عليها المتلقّي سايكولوجيّاً ومعرفياًّ، بما قد تحيل إليه؛ ممَّا هو خارج النص أو داخله.” إنَّ العنوان، وإنْ كان يقدّم نفسه بصفته مجرّد عتبة seuil للنص؛ فإنه بالمقابل، لا يمكن الولوج إلى عالم النّص ، إلاّ بعد اجتياز هذه العتبة. إنّها تمفصل حاسم في التفاعل مع النّص … باعتباره سُمّاً وترياقاً في آنٍ واحد: فالعنوان، عندما يستميل القارئ إلى اقتناء النّص وقراءته، يكون ترياقاً محفِّزاً لقراءة النص، وحينما ينفِّر القارئ من تلقِّي النص؛ يصير سُمّاً، يفضي إلى موت النص، وعدم قراءته.”
إنّ اللاّفت للخطاب البصري هو توسّط العنوان صفحة الغلاف الأمامي بمحاذاة اليمين وقد خُطّ باللّون الأحمر الغليظ، ولنسلّم أنّ انكتاب العنوان بالحرف الغليظ جدّا وباللّون الأحمر وهو لون الجاذبيّة والإغراء والإغواء لم يكن أمرا اعتباطيّا، بل كان للتّدلال على أنّه علامة سيميائيّة محيلة إلى مركزيّة العنوان ومدى تأثيره وتحكّمه في الفعل القرائي وتأشيره على أهميّة الكتاب في سوق التّداول الثّقافي والأدبي. فما المجموعة القصصيّة، في نهاية المطاف، إلاّ امتداد للعنوان وتحديد لقدرته على الانتشار على الفضاء الورقي، أو بلغة أخرى ما النصّ إلاّ قدرة العنوان على الفحولة الفنيّة والخصوبة السّرديّة، فالطاقة المختزنة في باطن العنوان هي المؤشّر على محتمل تمدّده السّردي ونسب تعديّته في نطاق البناء المعماري للمجموعة القصصيّة. إنّ ما يمكن أن تسعفنا به الملاحظة، في هذا الإطار، أنّنا إن فكّكنا العنوان وشرحنا كلماته المفتاحيّة، من المؤكّد أن نغنم نتائج مهمّة تفسح لنا سبيلا آمنا، سخاء رخاء، إلى الغوص في مجاهل النصّ وتشقيقه وفهمه. فإذا تدبّرنا لفظة” مواويل” أيقنّا أّنها لفظة صادرة عن عالم الفنّ والحلم، فهي شبه رؤية مختزلة للعالم القائم القاتم، بلغة الفنّان المبدع الّذي يحسّ بالألم، لأنّ الكون لا يعجبه، ولأنّه يحمل بين جوانحه شهوة لإصلاح العالم. فالمواويل بتركيبها الجمالي وتشكيلتها النّغميّة تومئ في تعاطيها مع الواقع، موضوعِ علم الجمال إلى إعادة إنتاج مفهوم النّسبيّة، أي نسبيّة القبح والجمال، فالجميل والقبيح ليسا معياريّين، فما تراه جميلا يراه غيرك قبيحا، والعكس صحيح. وبناء عليه، فإنّ الفنّ هنا لا يسعه إلاّ أن يستعيد مفاهيم أخلاق الخير والشرّ إلى حضيرة الفكر النسبيّ، فبنية الشيء نفسه تكون ذاتَ تركيبة مزجيّة ازدواجيّة أو أمشاجا من الخير والشرّ، فلا الشيء مصدر كلّ خير ولا هو شرّ كلّ بليّة، ولكن لسرّ ما مودع في بنية الخير وبنية الشرّ تجعل الواحد منهما يولد من الآخر على نحو لا يُدركه إلاّ العارفون بالله ومن وطأت َ قلوبهم وعقولهم مراقيَ العلم ومدارج العرفان. أمّا في عبارة” عائد”، فإنّ العودة في وجيز عبارة، حركة ارتداديّة ارتجاعيّة، لكنّ الرّجعة حينما تكون من الوقائع أو الأشياء أو ما يمكن أن نسميّه بالذّاكرة الوقائعيّة نحو فضاء الذّاكرة، فإنّ الشيء لا يبقى هو هو، بل إنّه سيتعرّض إلى ضروب من التّحويلات والتّغييرات، وكذا الأمر إذا كان منطلق الرّجعة من الذّاكرة صوب المكتوب أو الذّاكرة الورقيّة فإنّ الشيء لا يسلم هو أيضا من الطروءات والتّحويلات، فما تنقله الذّاكرة لنا ليس الواقع هو هو، بل هو محض تمثيلات(Des représentations)، فكأنّ هذه المواويل لا تفعل شيئا سوى أنّها تستزرع بذور الخصب في السّديم، وتضرب بالجمال في أرض القبح والقحولة والموت، فتستحيل توليفة من اجتماع المؤتلف المختلف، فتذوب عناصر الشّقاق والتّغاير القتّال في مصبّ نهر الجمال، فتمنح الجمال كمالا والكمال إبداعا. إنّها سنّة التّجريب القصصي تسري دماؤها في عروق المجموعة القصصيّة “عائد من ضفّة النّار”. وبناء عليه، فإنّنا لا نذيع سرّا ولا نسوق جهرا، إن نحن قلنا إنّ البؤرة العنوانيّة تتناصّ مع اسم المؤلّف من ناحية، ومع المتن النصّي من ناحية أخرى. فأمّا تناصّه مع اسم المؤلّف فيبدر إلى خلد القارئ المدقّق، الطائف الجوّال في المجال البصري للغلاف الأمامي للمجموعة، أنّ بين العنوان واسم المؤلّف شجرة نسب وصلة قربي لا يبادر إلى قطعها إلا جاهل، غير عارف بما يثوي وراء العتبات من وزن واعتبار، فلا ينبغي أن يفوتنا أنّ الكاتب هو خالق عالمه القصصي، وما الشّخصيّات القصصيّة إلا منتجاته ومصنوعاته، فهو من صدّر الأزمات والمحن إلى شخصيّاته، وهو الّذي شحنها بمخزونه الشّعوري والرّمزي، وهو الّذي يحمل في سويداء قلبه قبل الورقة آلام وأحلام أمّة برمّتها. ولذلك خطّ برنامجا سرديّا إبداعيّا ليتسنّى له ضخّ دماء جديدة في شخصيّاته من شأنها أن تقدرهم على فعل المواجهة، وتجيز لهم ركوب الصّعب والذّلول في سبيل نيل الأوطار وتحقيق الأماني والظّفر بالمنية والمستقرّ. ولذلك فهو يظهر على أساس أنّه قسيم نفس أبطاله، بل هو للشخصيّة كالظلّ، أينما حلّت أو خطت حلّ بحلولها وخطا بخطوها، وما المواويل العائدة من ضفّة النّار بالنّسبة إلى ميزوني البنّاني إلا صدى وترجيعات صدى روحه المهلهلة المجتزئة الّتي عمّرها القرف من ضيق فسحة الأمل على رحابة العالم الّذي يحياه هو ومخلوقاته القصصيّة.
العناوين الفرعيّة وسلطة الهوامش والحواشي:
1) العناوين الفرعيّة:
إنّها ” مجموعة العلامات اللّسانيّة المشكَّلة من كلمات وجمل وحتّى من نصوص، قد تظهر على رأس النّص لتدلّ عليه وتعيّنه، تشير لمحتواه الكلّي، ولتجذب الجمهور المستهدف” ، وهي العناوين الّتي من شأنها خلخلة التّهيئ الّذي يضعه العنوان الرّئيس، أو على الأقلّ خلق هامش من التّلقّي المغاير للتلقّي الأوّلي، فجاءت نصوصا شارحة رغم تركيزها، وهو ما يؤكّد عناية المؤّلف بالنّص الكلّي وبالجمهور، وذلك من خلال جملة من الإجراءات الّتي عملت على تغليف وتشكيل وتأطير المجموعة القصصيّة، فتقحّمت نصوصها الجزئيّة، بشكل يستهدف القارئ بالدرجة الأولى. وهو ما جعل للكثرة الكاثرة للعناوين الدّاخليّة دورا مهمّا في صياغة بناء الأثر الدّاخلي، إضافة إلى استوائها محلاّ لإمرار جملة من وظائف فنيّة ودلاليّة على صلة بجماليّة النصّ وإنشائيّته. فلئن عُدّ العنوان العّام عنصرا فاعلا، لا مندوحة عنه، لتأمين وجوده المادّي من حيث التّبادلُ والتّداولُ إنتاجا وتقبّلا، فإنّ العناوين الدّاخليّة تتّصل بأسلوب الكاتب في تنظيم نصّه وبطرائقه الكاشفة عن قدرته في توجيه القارئ المنخرط في عمليّة القراءة.
لا مناص لنا، إن رمنا دراسة تناصّ العناوين الفرعيّة مع العنوان العامّ من ناحية ومع المتن النصّي من ناحية أخرى، من دراسة امتداد العنوان العامّ المعنوي وتشذّره في كلّ عنوان من العناوين الفرعيّة، وهي عناوين القصص المتضمّنة داخل متن المجموعة.
-العنوان الفرعي الأوّل:
المشي بسيقان ميّتة: فمثلا إذا عالجنا قصّة ” المشي بسيقان ميّتة” علمنا من أمرها أنّ المراد بالمواويل هي من ناحية تمثيلات الذاكرة الجماعيّة لأهل القرية عن مآثر الوليّ الصّالح “علي العريان” وبركاته المشهودة، وهذه المواويل (علامات التقوى والكرامات وقرائن النّفع والضرّ، والجمع والمنع) لم ينقطع ذكرها عن المخيال الجمعي لأهل القريّة، بل عادت لتنبعث من جديد في مجال السّلوك والممارسة مع “علي بوسروال” الّذي عدل باقتفائه أثر الجدّ عمّا كان عليه من تندّر أقرانه في الصفّ الدّراسي، للارتقاء إلى مرتبة الصفّ الأول في التّقديس والإجلال والاعتقاد في كمال صلاحه وسنيّ مكانته في الديّن والدنيا. أمّا المقصود بضفّة النّار في هذه القصّة، فهو العجز والبلادة والجبن ووصايا الوالد الّتي أوصلت الشخصيّة المحوريّة إلى عتبة الجنون، فلم يجد بدّا، تحت ضغوط سياقات ما لابسه من تهافت وقصور ذهني ونفسيّ وعوز حيلة، من أن يعيد إنتاج أسطورة سلفه المجنون الصّالح “عليّ العريان”، فاستشعر، في ظلّ السّياق الأوّل وهو المطحون المسحوق، أن لا سبيل أمامه إلا المضيّ قُدما في تمثيل الدّور على مسرح القبول والتقديس، وهو الّذي لا يفقه من دنيا النّاس ما يحقّق له أسباب العيش الكريم، فانقاد إلى الجنون انقيادا واستمرأ الدور، واستملح قطوفه الدانية.
-العنوان الفرعي الثّاني: توصية عزيزة جدّا جدّا:
أمّا بالنّسبة إلى قصّة “توصية عزيزة جدّا جدّا”، فإنّ حضور الرّاوي غائيّ تكشف عن حقيقة المواويل فيها، ذاكرة حزينة ينظم البطل الصبيّ بين أعطافها ما تفتّت من نُثارها، وانفرط من خيط سير اشتغالها وتعاقبها في الزّمن، إنّها ترنيمات ذات جريحة، كسيرة، حسيرة، تلملم صدى الأسى والبؤس على مسرح نفسها الكليلة وترجيعاته فيها. ولعلّ حكاية الصبيّ مع البائع الّذي اتّهمه بإعادة العشرة الدنانير إليه وتخبئتها في جيبه، وبراءته من الاتّهام المنسوب إليه براءة الذئب من دم يوسف ما يحيل إلى موّال عائد من ضفّة الظلم ومحور الشّر والأنانيّة، ويعود الفضل في ذلك إلى تدخّل عنون أمن، إذ رفع الالتباس وأعاد الحقّ لصاحب الحقّ، وذلك بما أُودع فيه حسّ بوليسيّ رفيع وبحرفيّة محقّق بارع أمكنه الكشف عن مكر البائع وإضماره التّحيّل على الصبيّ. ولعلّ الحظّ العاثر للبائع هو الّذي أوقعه في الفخّ الّذي نصبه بيده، وارتدّ السّحر على السّاحر. ولا مراء في أنّ ضفّة النّار تكتسب دلالاتها التّأويليّة ممّا رسُب من مخلّفات قاسية، سلبيّة، وأعراض مرضيّة انعكست على صفحة النّفس، نفس الشخصيّة المحوريّة، بفعل قمع التّجربة السّجنيّة وآثارها بعيدة الغور، تجربة، أقلّ ما يمكن أن يُقال بشأنّها، أنّها سلبت فرحة الحياة وغبطتها.
-العنوان الفرعي الثالث:
أحزان مسعود الشقيّ”:
هي أصداء ومواويل مقدودة من ذوب الموت المتلبّد الغيوم، والحزن العاصف والشّقاء المقيم المتلبّس بمسعود تلبّس عناصر البنية الواحدة الّتي لا فكاك بين وحداتها، إنّه الإعلان الصّريح عن استشهاد الحلم الأخير، حلم خلاص مسعود من سنابك الذلّ ونير الهوان والفقر، بعودة ابنه سعد في صندوق صفيح من إيطاليا (ضفّة النّار)، (وتأوّلنا إيطاليا بأنّها مراد الكاتب من ضفّة النّار، لأنّ الاستثراء السّريع في أرض هي أشبه بأرض يوم القيامة بحضورها كما لو كانت أرض جزاء لا أرض أسباب، وتكديس الثّروات في أمد من الزّمن غير بعيد، بشكل وبمعنى يقفز على منطق العقل ويتخطّى شروط الواقع، أيّ واقع، تلك الشّروط الّتي تحتّم حضور معادلة مفادها: تحقّق النّتائج على قدر بذل الأسباب، أو على قدر أهل العزم والجدّ والتّقدّم في الزّمن تكون الثّروات، فكأنّ الكاتب يومئ إلى أنّ هذه الثروة الّتي كوّنها سعد في فترة وجيزة لا يمكن أن يصدّقها عقل الحليم إلا على أساس أنّها من ثمار المال الفاسد وأبعد الظنّ أنّها من تجارة المخدّرات أو من سمسرة الجنس، لذلك كان موت سعد مقتولا نتيجة طبيعيّة وجزاء وفاقا لما قد تكون اجترحت يداه ). لذلك واجه مسعود فكرة موت الابن بالرّفض والإنكار في لا وعيه، لأنّ للموت، هنا، دلالة معنويّة ودلالة حسيّة، وهما صنوان. فالتّسليم بهذا يقود إلى التّسليم بذاك، لذلك أفضت الرّسالة الأخيرة، الّتي أرسلت بها ابنته سعديّة إليه، تخبره فيها على لسان ابنه بأنّ نبأ الموت الوشيك يقين، إلى رفع الحجاب الشفيف بين الحياة والموت، فكان صريع تلاشي الحلم المتبقَّى في ممكن مفارقة الشّقاء الجاثم المستبدّ.
-العنوان الفرعي الرّابع: عرس الشّهيد:
هي صورة سينمائيّة بكائيّة تفجعيّة تحمل مواويل وتمثيلات محرقة وموغلة في الحزن والكآبة وغشاوة ضبابيّة طالما حملها وطننا الأكبر منذ عصور بعيدة. وتتناصّ هذه القصّة/العنوان الفرعي الرّابع مع العنوان العامّ، ذلك أنّ ضفّة النّار فيها هي رفح فلسطين المحتلّة، إنّها منطقة ملغّمة، مسكونة بزبانية الموت وحصّاد الأرواح، المغتصبون الصّهائنة، هم بالمرصاد لكلّ من سوّلت له نفسه من أبناء الشعب فلسطيني البطل، التّسلل إلى السّلك واجتياز الحاجز للثّأر من رموز البغي: عشّاق الموت أعداء الحياة، فإنّ أمر موته قدر مقدور، هو بين الكاف والنّون، فلا مفرّ إن عاد، من أن يعود عودة محمّد الحنفي، مواويل وتمثيلات، ذلك أنّ قدر الفلسطيني المناضل الأبيّ أن يكون في دنياه صورة، إنّها صورة الفلسطيني النّموذجي، الّذي أبى أن يبيع دينه وأرضه بدنياه، فصورته النّموذجيّة المجرّدة يمكن أن تُختزل فيما ثبُت واستقرّ في اللاوعي الجماعي الفلسطيني على التّجسيد الأوفى لفكرة التّصميم والثّبات على المقاومة، والاستعداد الجماعي لبذل الدّماء الزّكيّة والأموال، كلّفهم ذلك ما كلّفهم، قربانا من أجل استعادة الأرض والعرض. وخير دليل على ذلك تحوّل سرد الأحداث الّتي حفّت باستشهاد الفتى الفلسطيني” محمّد الزّلف” يوم 5 مارس 1988 إلى كتابة سيرة كاملة لهذا الشّهيد منذ ولادته فيفاعته وحلمه بالشّهادة إلى أن تحقّق الحلم. لقد اضطلع حضور السّيرة في هذه الأقصوصة بوظيفة تمجيديّة تاريخيّة تتجاوز في رمزيّتها الشّهيد، الشخصيّة القصصيّة، إلى جيل كامل من الشّهداء، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا. ولذلك كان حضور السيّري في أقاصيص ميزوني البنّاني حضورا منفتحا على الآتي، رافضا الانغلاق على اللّحظة الماضية، وذلك بما يحمله الآتي من بشائر الأمل الوضّاء ومن معاني الاليوتوبيا المقلوبة الّتي يستدعيها إيمان راسخ بضرورة عودة الحقّ لأصحاب الحقّ.
-العنوان الفرعي الخامس: الزّبون الجديد: وضفّة النّار في هذه الأقصوصة، هي في نظرنا، راهن لحظة التّقاعد الّتي عاشها المدرّس إبراهيم، والتقط لنا الكاتب طعم المرارة الّتي شرب من كأسها إبراهيم/ الشخصيّة القصصيّة. وهكذا، فإنّ استخدام عبارة” الضفّة” استخدام كنائيّ يحيل إلى نقطة عمريّة مفصليّة، وهي تقريبا سنّ السّتين، الّتي كان العرب القدامى يسمّونها سنّ دقّاقة الرّقاب، تقتضي الانصراف عن مرحلة الوظيفة والاشتغال إلى مرحلة اللاّوظيفة والاستغناء عن الخدمات، ولعلّ النّار هنا رمز لما يصاحب هذه النّقلة المرحليّة النوّعيّة الجديدة من إحساس بالهامشيّة والعبثيّة وانعدام الجدوى والفاعليّة، ولكن هذا الإحساس ما كان نابعا عن فراغ وما كان مصدره تمثيلات ذاتيّة تفيض عن الحدود، وتصّاعد من الباطن النّفسي للمتقاعد لتنعكس في مجال الممارسة والسّلوك، بل هو حقيقة لا وهم، وعلم لا حلم ساهمت في تشكّل نسيجه وتكوين العقدة النّفسيّة لديه المؤسّسة التّربويّة الّتي نفذّت قرار الاستغناء عن خدمات المدرّس من ناحية وعاضدها المجتمع ونمثّل لحضوره في الأقصوصة بتغيّر صورة إبراهيم في عيون النّادل بعد إحالته إلى التّقاعد، إذ تراجعت خدماته وساءت، فقد تحوّل اهتمامه المبالغ فيه، منه إلى معلّم جديد كان تلميذه في السّابق، وهو ما ضاعف من حزنه وإحساسه باللّوعة والأسى. أمّا المراد بالمواويل، فهي أصداء الماضي وعبقه تتدّاعى من اللّحظة الحاضرة باتّجاه اللّحظة المنقضية. إنّها خليط من الذّكريات وتهويمات، وأمشاج من صور التّنوير وصور التّعتيم تتقحّم عليه ذاته في آن .
-العنوان الفرعي السّادس: “من أخلص معاني الحبّ”:
المواويل هي أصوات العشق المحمومة المنبعثة من أعماق عسكريّ أمريكي تتردّد أصداؤها وترجيعات أصدائها عبر عقد التّرسّل والكتابة، يصوّر من خلالها ما فعلته به تباريح المواجد وترنيمات الأشواق تجاه زوجته ” كاتي” وأبنائه، في ظلّ حرب عاصفة يعيش أحداثها ويواكبها لحظة بلحظة على جبهة الموت بالعراق/ ضفّة النّار، تلك الّتي لا تُشتمّ منها إلاّ رائحة الموت وعفن الموتى، إنّها مواوويل يبدو من خلالها الجندي كأنّه يطرد، وهما، شبح الموت الوشيك، المحدق به وبغيره من زملائه المرتزقة لا محالة. نفس ملتاعة من البعد والمخاوف، والقلق والانتظار، والغربة والحنين. وكأنه يحنّط، عبر رسائله ووصياه العشر إلى زوجته، لحظات تائهة من حياته والموت القادم يزحف باتّجاهها كما تزحف النّار إلى موضع الهشيم. وهو ما يدلّ على أنّ المراد بالنّار، رمز لما ينتظر الجنود، في كلّ حين، من تدمير بشع بالكيمياوي.
– العنوان الفرعي السابع: الأيادي النّظيفة:
يتناصّ هذا العنوان الفرعي مع العنوان الرّئيس، ذلك أنّ ضفّة النّار في هذه القصّة لا يمكن فهمها إلاّ في إطار علاقة الشرق بالغرب، والشّمال والجنوب، ذلك أنّ تحرّك الغريب باتّجاه القريّة، وبذله حوّالة شهريّة ليوسف، ما كان البتّة تحرّكا بريئا ولا فعلا خيريّا مجانيّا، وإنّما هو كيد مدبَّر بليل، إنّها من قبيل دسّ السمّ في الدّسم، وهي الحقيقة المروّعة الّتي اهتزّت لها أفئدة أهل القريّة، وهي سرقة كنوز الجدود. ولم تتّجه أصابع الاتّهام إلى الغريب إلاّ بفعل تزامن غيابه عن القرية مع حدوث السّرقة. ولعلّ المقصود بالمواويل في هذه القصّة هو المكر السيّء الّذي اجترحه الغريب وحاق بأهل القرية، وهو مكر يأتيها من ضفّة النّار وهو الآخر، والآخر الحضاري هنا بمعنى الجحيم. وقد كشف الحوار عن ذلك، فيوسف يتلقّى مبلغا كبيرا في نهاية كلّ شهر من ذلك الأجنبيّ الّذي كان قد صنع له يوسف أسطورة في القرية، ورقّاه في أعين النّاس إلى مراقي الصّالحين، ويوسف هو رمز الطّبقة المغتربة الانتهازية المتذيّلة للاستعمار في البلاد العربيّة الّتي تمتح تملّكها للسلطة وتمتّعها بالثّروات وارتقائها إلى الصنف المسمّى بأسياد المجتمعات الرّاقية من سمسرتها بالقضايا العربيّة الكبرى وعلى رأسها قضيّة فلسطين، وتمعّشها من ارتهانها للخيارات السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة المسطورة من الغرب، ومن رعايتها للمصالح الاستعماريّة الغربيّة الأوروبيّة والأمريكيّة. و الدّليل على ذلك أنّ المبلغ المالي الذّي كان يتلقّاه يوسف من الغريب هو مكافأة له على عنايته بالبغل، وذلك رغم أنّ هذا الأخير لم يكن يكلّفه أيّ مقابل ماديّ، ينبئنا أنّ ذلك الغريب لم يكن يرسل ذلك المال للعناية بالبغل، بل ليستمرّ ذكره في تلك القرية، وليسبّح الجميع بحمده، حتّى يصنع ذاكرة استعماريّة تشرّع لوجوده هو ومن يأتي بعده، ذاكرة ترتبط بالكرامات وبالمعرفة الّتي لا يملكها، ولا يبلغها أحد من أهل القرية حتّى وإن تعلّقت بأحوالهم الخاصّة. يقول الكاتب في الصفحة91:” يكفيه فخرا أن يبقى الرّاوي الوحيد لأخبار الغريب في المنطقة كلّها، الفضل في ذلك كلّه يعود إلى هذا الأجنبيّ…لو لم يعطه فرصة رؤيته قبل أيٍّ كان من وادي الحصى، ولم يشرّفه بتنصيبه راعيا لشؤون بغله الأصهب مدى الحياة قبل سفره المفاجئ منذ سنتين…لو لم يفضّل اسمه على كلّ الأسماء فنقله من يوسف إلى جوزيف حتّى يصبح مناسبا لمكانة بغله الأصهب المدلَّل لبقي منسيّا لا يساوي قلامة ظفر”.
– العنوان الفرعي الثامن: اعترافات رجل سافل:
لعلّ ضفّة النّار في هذه القصّة/ العنوان الفرعي السّابع هو الماخور أي الفضاء الموضعي والقانوني الحاضن للّقاء الجنسي الّذي التئم بين رضا الشخصيّة القصصيّة وبين إحدى المومسات العاملات به. وأمّا المواويل العائدة من ضفّة النّار، فهي أصوت الندم والتّوبة النّصوح المنبعثة من نفس رضا، الّذي أتت توبته مستوفية لشروطها وزيادة، فالتّوبة ندم، وقد كان منه ذلك، وانعقاد العزم على عدم العود إلى سالف المعصية، وكان منه ذلك أيضا، أمّا الزّيادة، فكامنة في الوعد الّذي ضربه على نفسه، بأنّه سيضع تمثالا لزوجته في حديقة منزله، ولعلّ رمزيّة التّمثال مسبار لحقيقة ترقيّتها في ضميره ومخياله إلى الصفّ الأوّل، صفّ يجعلها تتلبّس في معراج عقله الباطن بمسوح التّقديس واستحقاقيّة العبادة، بما لا يُجيز، مطلقا، مفارقتها ولا التّحوّل عنها إلى غيرها جسدا وروحا.
-العنوان الفرعي التاسع: آخر صكّ في الدّفتر:
ضفّة النّار في هذه القصّة/ العنوان الفرعي الثّامن، هي” أرسولا” بائعة الهوى، فهي ماء (جنس) ونار(الأيدز وهو مرض مستعص عن البرء). فهذه القصّة مرتكزها ” عُمار الطّائي” وهو رجل عربيّ ثريّ، ينفق أمولا طائلة على البحوث الطبيّة والمؤسّسات الاستشفائيّة المعنيّة برعاية مرضى الأيدز. وبقدر هروب عُمار من بائعات الهوى، ومطاردته للمستعصيات من النّساء فرارا من الأيدز إلاّ أنّه وقع فيه مع آخر صكّ يمنحه لمرافقة جنس. تلك الّتي ما كان منها إلاّ أن شكرته على كرمه، ولكنّها أعلمته أنّه قد تلقّى فيروس الأيدز”. فما المواويل العائدة إلاّ صوت مداهمة المرض له من حيث لم يدري ولم يحتسب، إنّه صوت انكسار التّوقّعات وخيبة الانتظارات وموت الآمال، فمن حيث رام لنفسه تحصيل الدّواء التقط الدّاء، ليته كان داء قابلا للبرء، إنّه صنو السّام والموت. أرسولا يهوديّة فكأنّه ما عقل وما فهم قول الشّاعر:
كلّ عداوة تُرجى مودّتها إلاّ عداوة من عاداك في الدّين
وقوله أيضا: يصرعن ذا اللّب حتّى لا حراك به وهنّ أضعف خلق الله إنسانا
-العنوان الفرعي العاشر: مواويل عائد من ضفّة النّار:
يكشف هذا العنوان الفرعي الحامل لصيغة العنوان العامّ نفسه عن كتابة لولبيّة دائريّة تعي نفسها، ولذلك تُقرأ البداية والنّهاية لا على نحو الكتابة السّرديّة التّقليديّة الجاري على منوالها الإبداع في القصص القصّيرة، أي تلك الّتي تسلك سبل المفهوم الخطّي للكلمة، وتنبني على السّرد الخطّي التّتابعي، وإنّما هي كتابة رمزيّة تتجاوز الخاصّ لتتعانق وتتعالق مع مدارات الإنساني العامّ، يقول المؤلّف في الصفحة 146:” يا أمّ رجب.. الظلمة، الضباب، والغبار، والغيم، والغشاوة، والمسالك، والدّروب الوعرة، وكلّ ما شابه ذلك في الأحلام، دلالة على ظلال الحالم في اليقظة”.
ولعلّ ما يهمّنا من أمر هذا العنوان، هو “أنّ مواويل عائد من ضفّة النّار” ما هي إلاّ أصداء حلم رجب (النّذارة بمجيء الجراد) وترجيعات أصدائه في أفق المجتمع الّذي إليه ينتمي، فقد تفرّق النّاس حول مضمون حلم رجب: موضوع الإنذار أو النّذارة طرائق قددًا، فهم بين مؤيّد ومعارض، بين مساند ومفنّد، واشتدّ بينها الهياج واللّغط، وتعالت الأصوات، وانتفخت الأوداج، واحمرّت العيون، وسعُرت القلوب حتّى اشتعل فتيل الغضب وغلا مرجل الحرب بينهما، فسالت دماء، وكان حلم رجب نارا أحرق النّاس.
*الهوامش والحواشي:
الحواشي، اصطلاحا، هي الإهداءات والشّروح المفسّرة الّتي تنهض إمّا بدور توثيق النصّ وتثبيت الإحالات ومصادر الكتاب ومراجعه، أو بتوضيح ما ورد غامضا. ولئن كانت الحواشي تذيّل النصّ وتقع في هامشه، فإنّها تؤدّي دورا وظيفيّا يؤازر المتن الحكائي. ويقدّم” جيرار جنيت” تعريفا شكليّا له، فهو ” ملفوظ متغيّر الطّول مرتبط بجزء منته تقريبا من النصّ، أمّا أن يأتي مقابلا له (en regard) وأمّا أن يأتي في المرجع . فهي بهذا المعنى، إضافة تُقدَّم للنّص بغرض تفسيره، وتوضيحه والتّعليق عليه. وهي تشكّل نصّا مستقلاّ بذاته على الرغم من موقعها في هامش المتن، وتوضع الهوامش باعتبارها ملاحظات وتعليقات، عادة، خارج جسم الصّفحة، في أسفلها وأحيانا في أعلاها أو في آخر الكتاب/الفهرس يخبرنا عمّا ورد فيه. وعليه، فإنّ قيمة الحواشي تكاد تضاهي مرّات ما كُتب في المتن، خاصّة حين يكون من المتن بمثابة لحظة انبجاس وتفجّر محموم للبوح بالمعنى ومنابته ومرجعيّاته. وهو أمر يثبت أنّه وإن بدت الحاشية عنصرا هامشيّا في ذيل الصّفحة- وهو ما يسمح بإزاحته والتّخلّص منه- فإنّه لا يمكن استبدالها، لأنّه جزء من منطوق الكاتب وما تهمس به الدّلالة دون أن تبوح به كلّ البوح. وخير دليل على ذلك الهامش المتضمِّن لتأطير التّحقيق الصّحفي الّذي أجرته الكاتبة والصّحفيّة المصريّة ” سهام ذهني” حول ” شهداء تفجير مفاعل ديمونة الإسرائيلي في فلسطين المحتلّة يوم 07/03/1988 والقصّة لها قصّة مذكورة في موقع وكيبيديا الموسوعة الحرّة مع ذكر الرّابط”. ولا مراء في أنّ حضور الهامش بما انطوى عليه من ذكر للحادثة واسم الصحافيّة (سهام ذهني) والإطار الزمكاني، إنّما هو حضور وظيفيّ أراد أن يعطي لسهام ذهني لا دور الصّحفيّ وميدانه الحقيقيّ الّذي تنفصل فيه الذّات الباحثة عن موضوع البحث، بل تجاوز ذلك ليمنحها وسام شرف ناطق بمثال حيّ لنضال المرأة العربيّة حيث تتفاعل ذاتها الأبيّة الموصولة بمركّبي الهويّة: العروبة والدّين مع عملها الصّحفي، وهو ما يترقّى بها إلى مرتبة الصفّ الأوّل من النّضال، الّذي يحملنا على أن نباهي بها عظماء الأمّة. فالهامش مهمّ جدّا، لأنّه يحمل النّاقد، المدقّق على الإقبال بشراهة الموثّق المؤرّخ على النصّ لتصفّح الأيّام المصوّرة لكيفيّة زفّ الشّهداء في هذا الوطن، عودة تبهج الأنفس وتثلج الصدور المتحرّقة شوقا لرؤية فلسطين، الفردوس المفقود، تستعيد مجدها الغابر، حرّة مستقلّة، على الوضع الّذي اُسلمت فيه للصّهائنة الملاعين بتواطئ مع قوى الغدر من بني جلدتنا: عشّاق الفناء أعداء الحياة.
المقالات المكتوبة حول المجموعة: لقد قرأنا كلّ الدّراسات الّتي كتبت حول المجموعة، ونحسبها جميعا مفيدة وكاشفة عن منابت هذا النصّ الإبداعي، وتفكيك أوجه الطّرافة والجدّة فيه. لكن ما نرجّح صوابه أنّ من أهمّ هذه الدّراسات المداخل لكشف مجاهل المعنى ومعنى المعنى، هي دراسة للأزهر النفطي الدّال العجائبي والمدلول الخرافي في:” مواويل عائد من ضفّة النّار” لميزوني البنّاني.”. وتتأتّى قيمة هذه المقالة، حسب رأينا، من تصحيحها مسار مفهوم الذّاكرة وطرائق اشتغالها، إن تلميحا لا تصريحا، فما يُعتقد، قديما، أنّه واقع ليس إلاّ تمثيلات وتحويلات تطرأ من خلال عمليّة انتقال الوقائع إلى الذاكرة، وهناك تحويلات أخرى تطرأ في مخزون الذاكرة حينما تنتقل إلى ذاكرة ورقيّة، فكم من وقائع قبيحة استحالت جميلة بما رسُب عليها من آثار فعل الذّاكرة وتُرجم إلى مكتوب ورقيّ.
خاتمة:
إنّ انعدام المصالحة بين الشّخصيّة القصصيّة وواقع الأزمة في القصّة المعاصرة التّجريبيّة، هو السبّب الثّاوي وراء انقياد الشّخصيّات، الّتي تضجّ بتراكمات وضغط وإكراهات واقعها الصّلد المتجهّم، المتيبّس، المظلم حسّا ومعنى، إلى الفرار إلى عالمها الباطني الحميم تلتمس فيه الطمأنينة والسّكينة وتفرّغ عبر منافذ الذاكرة وشقوقها، وتداعيات الأحلام ومعابرها ما ناءت بحمله من صلف واقعها المتلبّد، المكفهرّ ،المثقل بالمآسي والفواجع. وهو ما نعتبر القصّاص ميزوني البنّاني، بحقّ، قد وُفّق في تصويره وتجليّة أبعاده وامتداداته الكثيرة والمتنوّعة، القريبة والبعيدة، في داخل الشّخصيّة القصصيّة وخارجها، في ثورة النّفس البشريّة وتصدّعاتها وانفلاتها من عقالها وفي إكراهات الواقع وتأزّم الكونيين الإنساني والطّبيعي، تصريحا وتلميحا، كناية ومباشرة.

غلاف مواويل عائد من ضفة النار  الثقافية للنشر والتوزيع

 

أضف تعليق